:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أبريل 19، 2024

ماليفتش والتفوّقية


في 19 ديسمبر 1915، افتُتح معرض للأعمال الفنّية الراديكالية في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقد تجاوزت العديد من القطع المعروضة حدود الشكل والأسلوب. لكن إحداها كانت مثيرة للجدل بشكل خاص.
كانت اللوحة معلّقة في زاوية الصالة، في مساحة كانت تُخصّص عادةً للأيقونات الدينية. وكان اسمها "المربّع الأسود" لكازيمير ماليفيتش. أحد الحضور سخر من بساطة اللوحة مدّعيا أنه "حتى الطفل يمكن أن يرسم مثلها!"
وذهب آخر إلى أبعد من ذلك، فكتب يقول ان "المربّع الأسود" من شأنه أن "يقودنا جميعا إلى هلاكنا!". بساطة اللوحة الظاهرية تثير الحنق والارتباك. لكن نظرة فاحصة تكشف أن عمل ماليفيتش ليس فقط أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى، بل قد لا يكون حتى لوحة لمربّع أسود على الإطلاق.
وعلى الرغم من اسمها، ستجد أن الشكل المركزي للوحة ليس أسود ولا مربّعا تماما. وأضلاعه ليست متوازية أو متساوية في الطول، كما أن الشكل لا يتموضعُ تماما على القماش.
وبدلاً من ذلك، وضع ماليفيتش النموذج بعيدا عن التوازن قليلا، ما يعطيه مظهرا حركيّا. كما أن اللون الأبيض المحيط به يمنحه نوعية حيّة ومهتزّة. وقد كشف التحليل الفنّي أن ماليفيتش كان قد استخدم القماش قبل ذلك للوحتين أخريين.
ولو نظرت الى اللوحة اليوم، ستلاحظ وجود تشقّقات كثيفة في الطلاء نتيجة للتقادم وعوامل الجفاف. وهذه التشقّقات تكشف عن أجزاء من اللون الأصفر المغبر والأحمر النابض بالحياة والزمرّدي الباهت. وكلّها تشير إلى المراحل المتعدّدة التي قطعها ماليفيتش قبل أن يصل إلى الشكل النهائي للوحة.
وتتجلّى عمليّته الإبداعية في ضربات الفرشاة القويّة والمعروضة بفخر وهي تتحرّك في العديد من الاتجاهات. كما لوحظ أن خيوطا من الشَعر، بالإضافة الى بصمات ماليفيتش نفسه، متأصّلة في الطلاء، ما يُضفي ملمسا مجازيّا وحرفيّا إلى العمل.
من نواحٍ عديدة، يمكن القول إن تاريخ ماليفيتش بأكمله جزء لا يتجزّأ من "المربّع الأسود". والمعروف أنه ولد في أوكرانيا لأبوين يتحدّثان البولندية، وعاش هناك حتى وفّر أخيرا ما يكفي من المال لتغطية تكاليف الرحلة إلى موسكو. وعند وصوله إليها في عام 1904، انهمك في تجريب جميع الأساليب الفنّية الطليعية في المدينة.
وقد رسم بأسلوب الانطباعيين واستوعب ما بعد الانطباعية ومرّ بمرحلة المستقبلية ثم تأثّر بالتكعيبيين. وبحلول عام 1913، كان على وشك تحقيق اختراق. وكان يدرك أنه حتى أكثر الفنّانين تطوّراً كانوا لا يزالون يرسمون أشياء من الحياة اليومية فقط.


كان ماليفيتش منجذبا بشكل لا يقاوَم إلى ما أسماه "الصحراء حيث لا شيء حقيقيّ سوى الشعور". وهكذا أصبح الشعور جوهر عمله. وكانت النتيجة "المربّع الأسود" وأسلوبا جديدا أسماه "التفوّقية أو السوبريماتيزم Suprematism"، حيث يصبح الشعور بالوحدة هو الأسمى.
وسيتحقّق هذا من خلال ما أسماه باللاموضوعية Non-objectivity، وهي خروج متطرّف للغاية عن عالم الأشياء لدرجةِ تَجاوُز التجريد.
بالنسبة للفنّان التفوّقي، الوسيلة المناسبة هي تلك التي توفّر التعبير الكامل عن الشعور النقيّ وتتجاهل الموضوع المقبول بحكم العادة. فالموضوع في حدّ ذاته لا معنى له بالنسبة للفنّان، وأفكار العقل الواعي لا قيمة لها. كما أن الظواهر المرئيّة للعالم الموضوعي لا يعوّل عليها في حدّ ذاتها؛ الشيء المهم هو الشعور.
كان ماليفيتش يؤمن بأن التبسيط والتشويه اللذين ميّزا الفنّ التجريدي كانا في النهاية بلا معنى، نظرا لأنهما ما يزالان يركّزان على تصوير أشياء العالم الحقيقي. وبالنسبة له، فقط ما هو غير تمثيليّ أو تجسيديّ تماما هو الجديد حقّا.
وكان يرى أن الفنّ ليست وظيفته خدمة الدولة والدين أو توضيح تاريخ الأخلاق. كما لا يجب أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع في حدّ ذاته. وبرأيه يمكن أن يوجد الفنّ في حدّ ذاته، بدون "أشياء".
ومن آرائه الأخرى أن كلّ شكل حقيقي هو عالَم مستقل. وأيّ سطح بلاستيكي يعدّ أكثر حيوية من الوجه الذي تحدّق منه عينان وابتسامة. والمربّع ليس شكلاً من أشكال اللاوعي، إنه طفل ملوكي حيّ، وهو الخطوة الأولى للإبداع الخالص في الفنّ.
وبينما أثار هذا النهج المتطرّف قلق النقّاد، سار ماليفيتش فيه قدما ولم يتراجع. فأمضى العقد التالي في شرح أعماله التفوّقية في مقالات، وعلّم أفكاره لجيل جديد من الفنّانين.
لكن بعد صعود ستالين إلى السلطة في عشرينيات القرن العشرين، اعتُبرت الأساليب الطليعية، مثل التفوّقية، غير منتجة او مفيدة للدولة الشيوعية. وفي نهاية المطاف، أصبح من الخطر إنتاج أيّ فنّ خارج "الواقعية الاشتراكية"، وهي أسلوب فنّي قسريّ يحتفل بالقادة السوفييت و"العمّال الأبطال".
في عام 1930، ألقت السلطات السوفيتية القبض على ماليفيتش لنشره "أفكارا تخريبية!" وتحت الضغط الشديد، عاد إلى رسم الاشخاص، فرسم الفلاحين وهم يقفون كالروبوتات في الأماكن الكالحة والمُتربة. لكن حتى هذه اللوحات كانت ما تزال تحتفظ ببصيص من أفكاره السابقة.
وتدريجيّا، فقد الشخوص في لوحاته أذرعهم ووجوههم، ثم تحلّلوا نهائيّا مع اكتمال سيطرة الميكنة على الريف. وخلال هذا الوقت، رسم ماليفيتش أيضا صورة لنفسه، وبدا أنه قد تخلّى عن التفوّقية تماما. لكن يده المفتوحة في الصورة أخذت شكلاً رباعيا، وفي الزاوية كان هناك مربّع أسود صغير!
كان هذا رمزا لرجل عانى من الحروب والثورات، لكنّه لم يتوقّف أبدا عن محاولات خلق فنّ جديد؛ ملجأٍ للشعور النقيّ الذي يكمن وراء ثقل الأشياء ومعاناة عالمٍ منقسمٍ على نفسه.


Credits
kazimir-malevich.org

الثلاثاء، أبريل 16، 2024

نهاية رجل خطير


كان قتل أرخميدس أحد أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في تاريخ العلم. وكان هذا العالم اليونانيّ قد قُتل على يد جنديّ روماني عام 212 قبل الميلاد أثناء حصار الرومان لبلدة سيراكيوز في صقلّية، على الرغم من صدور أمر بعدم تعريضه للأذى.
عُرف أرخميدس باختراعاته الكثيرة مثل الأشعّة الحرارية والمدفع البخاري ومفهوم الصغر اللانهائي وغير ذلك من النظريات الهندسية والرياضية. وربّما لو عاش عامين أو ثلاثة أخرى لكان على الأرجح قد اكتشف حساب التفاضل والتكامل، أي قبل نيوتن أو لايبنتز بألفي عام.
الكلمات الأخيرة المنسوبة إلى أرخميدس قبيل مقتله كانت: أرجوك لا تخرّب دوائري!" كان يخاطب قاتله مشيراً إلى الرسم الرياضي الذي من المفترض أنه كان يدرسه.
أرخميدس يُعتبر أعظم عالم رياضيات في العالم القديم، وأحد أعظم الرياضيين في جميع العصور. وقد نشأ ليصبح عالما متفرّدا بتوجيه من اثنين من أكبر علماء الرياضيات في زمانه. وعُرف عنه أيضا دوره الاستراتيجي في الحروب القديمة وتطوير التقنيات العسكرية.
وإن كنت قد شاهدت شخصية كرتونية لرجل عجوز يركض عارياً في شوارع إحدى المدن، فمن المرجّح أن تكون تلك الصورة الكاريكاتورية لأرخميدس.
وأصل القصّة أن الملك هيرون الثاني تحدّى أرخميدس أن يعرف ما إذا كان تاج الملك مصنوعا من الذهب الخالص أو مخلوطا بالفضّة. وكان على أرخميدس أن يكتشف نقاء التاج من عدمه دون أن يضطرّ الى صهره، ما قد يؤدّي الى الإضرار به.
وكانت تلك المسألة تلحّ على ذهن ارخميدس في كلّ وقت. وأثناء استحمامه، اكتشف أن هناك علاقة مباشرة بين الماء المتدفّق من الحوض وجسمه المغمور. وفجأة قفز من حوض الاستحمام وأخذ يركض في الشوارع وهو يصرخ "يوريكا.. يوريكا" أو "وجدتها.. وجدتها". وتوصّل الى مبدأه القائل بأن أيّ جسم مغمور في سائل يندفع إلى أعلى بقوّة تساوي وزن السائل المزاح.
ثم أجرى ارخميدس الاختبارات على تاج الملك، وبالفعل اتّضح أن الملك كان على حقّ، فقد خُلطت الفضّة بالذهب في التاج. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عبارته الشهيرة "يوريكا" تُستخدم للتعبير عن الفرح الكبير بأيّ اكتشاف جديد أو مفاجئ.
ويبدو أن العلم المفضّل عند أرخميدس لم يكن الهندسة بل الرياضيات. وربّما كان أحد أعظم إنجازاته في الرياضيات هو قياس الدائرة. وكانت قياساته لها دقيقة بشكل مثير للإعجاب.
ومن المؤسف حقّا أن مثل هذا الرجل اللامع والعبقري انتهى نهاية مفجعة. فقد كان الرومان بقيادة الجنرال ماركوس مارسيلوس يحاصرون مدينة سيراكيوز لمدّة عامين عندما تمكّنوا أخيرا من فتح أسوار المدينة.
وقيل إن مارسيلوس أمر بألا يَمسّ أحد أرخميدس وأنه سيكون ضيفه الشخصي. في ذلك اليوم، كان أرخميدس جالسا في منزله يحاول حلّ مسألة رياضية معقّدة عندما اندفع إلى داخل بيته جنديّ روماني فوجده يرسم دوائر على الأرض. وعندما أشهر الجندي سيفه في وجه العالِم قال له بهدوء: أرجوك قبل أن تقتلني، دعني أنتهي من دوائري". لكن الجنديّ لم يكترث بطلبه فهوى عليه بسيفه وقتله.
كان الغزاة الرومان على ما يبدو يثأرون من أرخميدس لأنهم اعتبروه رجلا خطيرا لابتكاره سلاحا جديدا استُخدم في الحرب ضدّهم. فعندما أبحر الأسطول الروماني لقتال جيش الملك هيرون، طلب الأخير من أرخميدس ابتكار طريقة فعّالة لمواجهة أسطول العدوّ الأكثر عددا وعدّة. وقد دُمّر معظم الأسطول المهاجم بواسطة المرايا المقعّرة، أو شعاع أرخميدس الحراري، الذي عكَسَ ضوء الشمس على السفن ما أدّى الى احتراق معظمها.
ويُعتقد أن أرخميدس ربّما استخدم مرايا كثيرة كعاكسات مكافئة. وقيل إنه عندما رأى جنود الجيش المهاجم ما حدث للسفن قالوا لملكهم: يجب أن نكفّ عن محاربة هذا الوحش الهندسي الذي تغلّب على مآثرنا بشعوذته الخارقة. لقد حوّل سفننا الى أكواب لغرف الماء من البحر!".
ويقول بعض المؤرّخين أن المينويين Minoans سبق أن استخدموا مرايا مزدوجة لهذا الغرض، وربّما كان أرخميدس يعرف هذا أو سمع به من قبل.
دُفن أرخميدس بالقرب من بوّابة سيراكيوز، ووُضعت على قبره كرة واسطوانة. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشهورا كثيرا في زمانه، إلا أن مخطوطاته تُرجمت في العصور الوسطى الى لغات عديدة وجذبت اهتمام الكثيرين. وفي القرن التاسع عشر قال فولتير واصفا إيّاه: كان في رأس أرخميدس من الخيال أكثر بكثير ممّا كان في رأس هوميروس!"

Credits
archimedespalimpsest.org

السبت، أبريل 13، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • لم أقرأ رواية ذئب البراري "أو ذئب السهوب" إلا متأخّرا نسبيّا. وقد وجدتها ممتعة وعميقة المعنى. كما أنها خفيفة وسهلة الفهم. ومن المزايا الأخرى التي قدّرتها في الرواية أنها لا تتضمّن شخصيات كثيرة تُربك القارئ وتشتّت تركيزه.
    بطل الرواية يسمّي نفسه ذئب البراري. وهو شخص مثقّف، منعزل، بلا علاقات تقريبا، ومتحفّظ في إظهار مشاعره، لا يؤمن بالكثير من افكار وقناعات مجتمعه ويساوره الحنين الى عصور سابقة.
    وهو في الرواية يتحدّث عن الكثير من رموز الحزن وضحايا سوء الفهم في هذا العالم، مثل نوفاليس ودستويفسكي وأتيلا وفاوست وموزارت وهاملت واوفيليا وغيرهم.
    كما يتحدّث بشغف عن ظواهر لا أشكّ انها تجذب اهتمام الكثيرين، من قبيل بعض الصور والأنغام والروائح التي تنقل الانسان الى عوالم مختلفة وتلحّ على ذهنه بين فترة وأخرى. وذئب البراري يصف عزلته بأنها "ساكنة سكون الفضاء البارد الذي تدور فيه النجوم في افلاكها".
    في هذه الرواية "علم نفس" كثير، ربّما أكثر ممّا ينبغي، مثل حديث الراوي عن ثنائية الانسان والذئب، وكيف يتغلّب الذئب على الانسان او العكس. وهو يُفرد لهذا صفحات كثيرة. وقد شعرت أن الإسهاب في هذا النوع من الحديث يبطّيء من وتيرة الرواية، أيّ رواية، لدرجة انه يمكن ان يصيب القارئ بالملل.
    من العبارات التي راقت لي والتي ترد على لسان البطل قوله: الانسان بَصَلة مكوّنة من مائة غلاف"، أو قوله في وصف موسيقى الجاز أن نصفها عابق بشذى العطور ونصفها الاخر همجيّ."
    ذئب البراري او السهوب رواية مختلفة. ولا بدّ وأن يجد الكثيرون في أنفسهم شيئا من شخصية البطل أو بعضا من سمات شخصيّته الغريبة. وللمؤلّف هيرمان هيسّه روايات أخرى أشهرها "سيدهارتا" و"ساعة بعد منتصف الليل" وغيرهما.

  • يرسم بعض الفنّانين بهدف إضافة مشهد ودراما إلى العالم، بينما يستخدم آخرون فنّهم لإضفاء نوع من الصمت. الرسّام الدنماركي وليام هامرشوي كان ينتمي للنوع الثاني.
    استثمر هامرشوي الكثير من المعنى في هدوء الغرف الفارغة التي كان يرسمها. ولوحاته تتكوّن من تصميمات داخلية نصف ضبابية تلفت انتباهنا إلى الفوائد البسيطة للوجود، حيث نتمكن من ملاحظة المزيد، وفي الوقت نفسه نجد ضجيجنا الداخليّ ونعمل على تهدئته.
    وصور الرسّام هي نقيض لصور السيلفي الحديثة. فبدلاً من أن تقول "انظر إليّ وما أفعله"، فإن هذه اللوحات ترفض ذلك الجزء من الطبيعة البشرية الذي يريد أن يهتمّ به الآخرون. وبدلاً من ذلك، فإنها تدعو الانسان للتأمّل والتواضع.
    لماذا نرغب في ان ننظر الى أريكة فارغة أو نافذة مضاءة بنور القمر؟ الإجابة التي تقدّمها هذه اللوحات ضمنا هي أن بعض اللقاءات الأكثر أهميّة هي تلك التي تحدث في لحظاتنا الأكثر حميمية وخصوصية.
    قال هامرشوي ذات مرّة: لطالما اعتقدت أن الغرف تحتوي على مثل هذا الجمال برغم خلوّها من أيّ أشخاص، بل ربّما وعلى وجه التحديد عندما لا يوجد بها أيّ أشخاص". لذلك فإن ما تراه في لوحات الفنّان هو رغبته في رؤية العالم كسلسلة من أوقات العزلة والتأمّل.
    ولد هامرشوي في كوبنهاغن بالدنمارك عام 1864، وقضى معظم حياته في المدينة التي ولد فيها. وقد تدرّب في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، وتلقّى دروسا على يد الفنّان نيلز كيركغارد ابن عمّ الفيلسوف المعروف سورين كيركغارد.
    وقد أنجز هامرشوي العديد من لوحاته الأكثر شهرةً داخل منزله في كوبنهاغن، واختار أن تكون زوجته هي الجليسة التي تظهر في جميع لوحاته.


  • عندما تسكب روحك وتهدر وقتك في نصّ ولا يقرؤه أحد، فقد يدفعك هذا لأن تشعر بالألم. والأمر يشبه أن تجرّد من جزء من هويّتك ككاتب وتبدأ في تقريع نفسك وتعنيفها. وربّما يجعلك هذا تتساءل عمّا إذا كنت قد خُلقت للكتابة حقّا، أو ما إذا كنت تحلم كثيرا أو تضيّع وقتك فيما لا طائل من ورائه.
    الشكوك التي طالما راودتك عن انعدام موهبتك واعتدتَ أن تبعدها تعود مجدّدا لتستقرّ على كتفيك وتهمس في أذنك نادبةً سوء حظك ولتخبرك أنها كانت على حقّ وأنك كنت مخطئا.
    لكن قد لا تكون هذه هي المشكلة. فإذا لم يجد أحد نصوصك جمهورا يقرؤه، فليس بالضرورة لأنه سّيء، بل قد تكون هناك أسباب أخرى خارجة عن إرادتك.
    هناك العديد من الكتّاب ممّن يربطون قيمة نصوصهم بعدد القراءات التي تحصدها تلك النصوص. ويشبه الأمر ربط كمّية المال بقيمة الشخص الذي يملكه، في حين أن المال لا يحدّد قيمة الانسان وعدد القراءات لا يحدّد قيمة النصّ.
    وواقع الحال أنك يجب أن تعتزّ بنصوصك المنعزلة، أي تلك التي لم تُقرأ بما فيه الكفاية. قد لا تكون جيّدة بما يكفي أو ربّما تكون بحاجة إلى جمهور من نوع ما يقدّرها ويستشعر ما فيها من تفرّد وجمال.
  • هذه القصّة المعبّرة ترد في العديد من الثقافات، مع بعض الاختلاف في التفاصيل.
    يُحكى أن أهل قرية شربوا من ماء نهر فأصيبوا بالجنون. فقط شخصان امتنعا عن الشرب من النهر، لذا استمرّا عاقلين.
    غير أن أهل القرية أصبحوا ينظرون إليهما نظرة دهشة وشفقة ظنّاً منهم انهما أصيبا بالجنون. ولكي يُبعد الرجلان شبهة الجنون عن نفسيهما، لم يجدا خلاصا سوى بالشرب من ماء النهر، فأصبحا مجنونَين!

  • Credits
    bruun-rasmussen.dk