:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، أبريل 22، 2024

رحلة في غابة العقل


من أفضل الأفلام السينمائية التي تستحقّ المشاهدة فيلم راشومون "1950" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910-1998). كان كوروساوا أحد أكثر المخرجين تأثيرا في تاريخ السينما وقدّم مساهمات كبيرة في تطوير السينما اليابانية والعالمية. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال مخرجين كبار مثل سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وغيرهم.
امتدّت مسيرة كوروساوا المهنية لأكثر من خمسة عقود، أخرج خلالها وشارك في كتابة العديد من الأفلام الناجحة والتي نالت استحسان النقّاد والجمهور ونال عليها العديد من الجوائز المرموقة في المهرجانات السينمائية الدولية. وكان معروفا بقدرته على مزج عناصر القصص اليابانية التقليدية مع التقنيات الغربية، ما أدّى إلى ظهور أسلوب سينمائيّ فريد وقويّ ارتبط باسمه.
"راشومون" يُعتبر بإجماع النقّاد من روائع السينما اليابانية والعالمية. وكان له تأثير كبير على تقنيات السرد القصصي والبنية السردية في السينما. عنوان الفيلم "راشومون" يشير إلى بوّابة في كيوتو باليابان، حيث تجري محاكمة ويقدّم الشهود رواياتهم المختلفة عن جريمة قتل.
ومن خلال البناء السرديّ المبتكر، يثير الفيلم أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حول طبيعة الحقيقة والذاكرة وعدم موثوقية الإدراك وتعقيدات السلوك البشري. كما يتحدّى فكرة الواقع الموضوعي ويؤكّد على الطبيعة الذاتية والفردية لسرد القصص.
تدور أحداث الفيلم في اليابان الإقطاعية، وتبدأ بالعثور على محارب ساموراي ميّتاً في بستان للخيزران. ثم يروي الشهود الأربعة على الجريمة إفاداتهم عمّا رأوه واحدا بعد الآخر. وبينما يسرد كلّ منهم قصّته المتعارضة مع قصص الآخرين، يتضح أن كلّ شهادة تبدو معقولة مع أنها مختلفة.
وكوروساوا يستخدم الفيلم لإعطاء وزن متساوٍ لشهادة كلّ شخص، ويحوّل كلّ شاهد إلى راوٍ غير موثوق، من دون أيّ تلميحات حول من منهم يعطي الرواية الأكثر دقّة، وبذا لا يستطيع الجمهور معرفة الشخص الموثوق بشهادته ويُترك المتفرّج متشكّكا في قناعاته حول من أنهى حياة الساموراي.
والبعض قد يجد هذا محبطاً لأن الفيلم يقلب التوقّعات ويرفض تقديم إجابة قاطعة أو مؤكّدة عمّا حدث. كما تفترض حبكة الفيلم ضمناً أنه عندما نتذكّر حدثا ما فإن تفسيرنا له يتأثّر بتجاربنا السابقة وتحيّزاتنا الداخلية.
لكن أهمّ الأسئلة التي يثيرها "راشومون" هي: ما الحقيقة أصلا؟ وهل هناك حالات لا توجد فيها "حقيقة موضوعية"؟ وماذا يمكن أن تخبرنا إيّاه الروايات المختلفة لنفس الحدث؟ وكيف يمكننا اتخاذ قرارات جماعية عندما نعمل معا؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات محدّدة. وربّما تكون الفكرة الدائمة التي يطرحها الفيلم هي أن ترك مساحة للغموض تُعدّ قيمة مهمّة في حدّ ذاتها.
بالإضافة إلى تجربته السردية المبتكرة، يتميّز "راشومون" أيضا بجمالياته البصرية المبهرة، إذ يساهم استخدام كوروساوا للضوء الطبيعي وحركات الكاميرا الديناميكية في إضفاء طابع دراميّ مكثّف على الأحداث.


المعروف أن أثر هذا الفيلم قد امتدّ إلى ما هو أبعد من السينما، فاستُخدمت أداته السردية، أي تقديم وجهات نظر متعدّدة ومتباينة عن حدث ما، في الأدب والمسرح. ثم ما لبث أن ظهر مصطلح "تأثير راشومون"، الذي يصف ظاهرة التفسيرات المتناقضة لنفس الحدث وعدم موثوقية شهود العيان وقصور فهمنا للحقيقة والعدالة والذاكرة الإنسانية.
بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم راشومون رحلة في غابة العقل لتناوله موضوعات فلسفية عميقة واستكشافه لتعقيدات الطبيعة البشرية. كما يُعتبر عملا أساسيّا في تاريخ السينما، ليس لأنه يقدّم قصّة جذّابة ومثيرة للتفكير فحسب، وإنّما أيضا بسبب تركيبته البصرية المذهلة وسرده القويّ.
وُلد أكيرا كوروساوا لعائلة من محاربي الساموراي، وكان لديه تقدير عميق للفنّ والثقافة اليابانية منذ شبابه. كما كان ميّالا للأدب والمسرح والفنون البصرية التي شكّلت خلفيّته الفنّية. وعُرف فيما بعد ببراعته في تصوير قصص من الحقبة الإقطاعية من تاريخ اليابان. لكنّه أيضا تعمّق في الموضوعات المعاصرة والحديثة واستكشف القضايا الاجتماعية والطبيعة البشرية وتأثير التحديث السريع على المجتمع الياباني.
نهج كوروساوا في التعامل مع القضايا الاجتماعية وتأثير التحديث اتّسم بملاحظاته الدقيقة للسلوك البشري وقدرته على نسج روايات معقّدة. ومن خلال التفكير في المشهد الاجتماعي والثقافي المتغيّر في اليابان، التقط المعضلات والتوتّرات التي يواجهها الأفراد والمجتمع ككلّ خلال فترات التحوّل والتحديث.
وكانت إحدى نقاط قوّة هذا المُخرج هي قدرته على خلق شخصيات غنيّة يمكن التماهي معها وتمثّل كفاح المواطنين العاديين. وكثيرا ما شَكّكت أفلامه في القيم التقليدية والأعراف المجتمعية لليابان. مثلا في فيلم "الساموراي السبعة"، تدور القصّة المحورية حول مجموعة من محاربي الساموراي الذين عُيّنوا لحماية قرية من خطر قطّاع الطرق. ويثير الفيلم تساؤلات حول أهمية ميثاق الشرف التقليدي الخاصّ بهؤلاء المحاربين.
كما صوّر كوروساوا آثار الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي واجهها الشعب الياباني في فترة ما بعد الحرب. كانت اليابان وقتها مجتمعا منقسما على نفسه وفي حال من الفوضى وشيوع الفقر والجريمة وفقدان القيم التقليدية، بعد أن تركت آثار الحرب البلاد مدمّرة اجتماعيا واقتصاديا. وفي فيلم "عالي ومنخفض" يستكشف كوروساوا التناقض الصارخ بين الأثرياء والفقراء من خلال قضية اختطاف، ليعكس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت.
وفي فيلم "إيكيرو"، يكتشف البطل، وهو شخص بيروقراطي، أنه مصاب بمرض عضال، ويتنقّل في النظام البيروقراطي، بينما يحاول العثور على هدف لحياته في سنوات عمره المتبقية. ويصوّر الفيلم الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتأثيرات عدم المساواة، بالإضافة الى التحدّيات التي يواجهها الأفراد المهمّشون في مجتمع ما بعد الحرب.
وفي فيلم "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، ينقل كوروساوا مأساة شكسبير إلى اليابان الإقطاعية، مستكشفا التأثير المُفسد للسلطة والطموح في بيئة الساموراي التقليدية والصراعات بين القيم التقليدية والحديثة.
ممّا يجدر ذكره أن فيلم "راشومون" تلقّى إشادة من النقّاد في اليابان وفي العالم، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951. كما مهّد نجاح الفيلم الطريق لأعمال كوروساوا والسينما اليابانية ككلّ للحصول على التقدير العالمي.


Credits
akirakurosawa.info

الجمعة، أبريل 19، 2024

ماليفتش والتفوّقية


في 19 ديسمبر 1915، افتُتح معرض للأعمال الفنّية الراديكالية في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقد تجاوزت العديد من القطع المعروضة حدود الشكل والأسلوب. لكن إحداها كانت مثيرة للجدل بشكل خاص.
كانت اللوحة معلّقة في زاوية الصالة، في مساحة كانت تُخصّص عادةً للأيقونات الدينية. وكان اسمها "المربّع الأسود" لكازيمير ماليفيتش. أحد الحضور سخر من بساطة اللوحة مدّعيا أنه "حتى الطفل يمكن أن يرسم مثلها!"
وذهب آخر إلى أبعد من ذلك، فكتب يقول ان "المربّع الأسود" من شأنه أن "يقودنا جميعا إلى هلاكنا!". بساطة اللوحة الظاهرية تثير الحنق والارتباك. لكن نظرة فاحصة تكشف أن عمل ماليفيتش ليس فقط أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى، بل قد لا يكون حتى لوحة لمربّع أسود على الإطلاق.
وعلى الرغم من اسمها، ستجد أن الشكل المركزي للوحة ليس أسود ولا مربّعا تماما. وأضلاعه ليست متوازية أو متساوية في الطول، كما أن الشكل لا يتموضعُ تماما على القماش.
وبدلاً من ذلك، وضع ماليفيتش النموذج بعيدا عن التوازن قليلا، ما يعطيه مظهرا حركيّا. كما أن اللون الأبيض المحيط به يمنحه نوعية حيّة ومهتزّة. وقد كشف التحليل الفنّي أن ماليفيتش كان قد استخدم القماش قبل ذلك للوحتين أخريين.
ولو نظرت الى اللوحة اليوم، ستلاحظ وجود تشقّقات كثيفة في الطلاء نتيجة للتقادم وعوامل الجفاف. وهذه التشقّقات تكشف عن أجزاء من اللون الأصفر المغبر والأحمر النابض بالحياة والزمرّدي الباهت. وكلّها تشير إلى المراحل المتعدّدة التي قطعها ماليفيتش قبل أن يصل إلى الشكل النهائي للوحة.
وتتجلّى عمليّته الإبداعية في ضربات الفرشاة القويّة والمعروضة بفخر وهي تتحرّك في العديد من الاتجاهات. كما لوحظ أن خيوطا من الشَعر، بالإضافة الى بصمات ماليفيتش نفسه، متأصّلة في الطلاء، ما يُضفي ملمسا مجازيّا وحرفيّا إلى العمل.
من نواحٍ عديدة، يمكن القول إن تاريخ ماليفيتش بأكمله جزء لا يتجزّأ من "المربّع الأسود". والمعروف أنه ولد في أوكرانيا لأبوين يتحدّثان البولندية، وعاش هناك حتى وفّر أخيرا ما يكفي من المال لتغطية تكاليف الرحلة إلى موسكو. وعند وصوله إليها في عام 1904، انهمك في تجريب جميع الأساليب الفنّية الطليعية في المدينة.
وقد رسم بأسلوب الانطباعيين واستوعب ما بعد الانطباعية ومرّ بمرحلة المستقبلية ثم تأثّر بالتكعيبيين. وبحلول عام 1913، كان على وشك تحقيق اختراق. وكان يدرك أنه حتى أكثر الفنّانين تطوّراً كانوا لا يزالون يرسمون أشياء من الحياة اليومية فقط.


كان ماليفيتش منجذبا بشكل لا يقاوَم إلى ما أسماه "الصحراء حيث لا شيء حقيقيّ سوى الشعور". وهكذا أصبح الشعور جوهر عمله. وكانت النتيجة "المربّع الأسود" وأسلوبا جديدا أسماه "التفوّقية أو السوبريماتيزم Suprematism"، حيث يصبح الشعور بالوحدة هو الأسمى.
وسيتحقّق هذا من خلال ما أسماه باللاموضوعية Non-objectivity، وهي خروج متطرّف للغاية عن عالم الأشياء لدرجةِ تَجاوُز التجريد.
بالنسبة للفنّان التفوّقي، الوسيلة المناسبة هي تلك التي توفّر التعبير الكامل عن الشعور النقيّ وتتجاهل الموضوع المقبول بحكم العادة. فالموضوع في حدّ ذاته لا معنى له بالنسبة للفنّان، وأفكار العقل الواعي لا قيمة لها. كما أن الظواهر المرئيّة للعالم الموضوعي لا يعوّل عليها في حدّ ذاتها؛ الشيء المهم هو الشعور.
كان ماليفيتش يؤمن بأن التبسيط والتشويه اللذين ميّزا الفنّ التجريدي كانا في النهاية بلا معنى، نظرا لأنهما ما يزالان يركّزان على تصوير أشياء العالم الحقيقي. وبالنسبة له، فقط ما هو غير تمثيليّ أو تجسيديّ تماما هو الجديد حقّا.
وكان يرى أن الفنّ ليست وظيفته خدمة الدولة والدين أو توضيح تاريخ الأخلاق. كما لا يجب أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع في حدّ ذاته. وبرأيه يمكن أن يوجد الفنّ في حدّ ذاته، بدون "أشياء".
ومن آرائه الأخرى أن كلّ شكل حقيقي هو عالَم مستقل. وأيّ سطح بلاستيكي يعدّ أكثر حيوية من الوجه الذي تحدّق منه عينان وابتسامة. والمربّع ليس شكلاً من أشكال اللاوعي، إنه طفل ملوكي حيّ، وهو الخطوة الأولى للإبداع الخالص في الفنّ.
وبينما أثار هذا النهج المتطرّف قلق النقّاد، سار ماليفيتش فيه قدما ولم يتراجع. فأمضى العقد التالي في شرح أعماله التفوّقية في مقالات، وعلّم أفكاره لجيل جديد من الفنّانين.
لكن بعد صعود ستالين إلى السلطة في عشرينيات القرن العشرين، اعتُبرت الأساليب الطليعية، مثل التفوّقية، غير منتجة او مفيدة للدولة الشيوعية. وفي نهاية المطاف، أصبح من الخطر إنتاج أيّ فنّ خارج "الواقعية الاشتراكية"، وهي أسلوب فنّي قسريّ يحتفل بالقادة السوفييت و"العمّال الأبطال".
في عام 1930، ألقت السلطات السوفيتية القبض على ماليفيتش لنشره "أفكارا تخريبية!" وتحت الضغط الشديد، عاد إلى رسم الاشخاص، فرسم الفلاحين وهم يقفون كالروبوتات في الأماكن الكالحة والمُتربة. لكن حتى هذه اللوحات كانت ما تزال تحتفظ ببصيص من أفكاره السابقة.
وتدريجيّا، فقد الشخوص في لوحاته أذرعهم ووجوههم، ثم تحلّلوا نهائيّا مع اكتمال سيطرة الميكنة على الريف. وخلال هذا الوقت، رسم ماليفيتش أيضا صورة لنفسه، وبدا أنه قد تخلّى عن التفوّقية تماما. لكن يده المفتوحة في الصورة أخذت شكلاً رباعيا، وفي الزاوية كان هناك مربّع أسود صغير!
كان هذا رمزا لرجل عانى من الحروب والثورات، لكنّه لم يتوقّف أبدا عن محاولات خلق فنّ جديد؛ ملجأٍ للشعور النقيّ الذي يكمن وراء ثقل الأشياء ومعاناة عالمٍ منقسمٍ على نفسه.


Credits
kazimir-malevich.org

الثلاثاء، أبريل 16، 2024

نهاية رجل خطير


كان قتل أرخميدس أحد أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في تاريخ العلم. وكان هذا العالم اليونانيّ قد قُتل على يد جنديّ روماني عام 212 قبل الميلاد أثناء حصار الرومان لبلدة سيراكيوز في صقلّية، على الرغم من صدور أمر بعدم تعريضه للأذى.
عُرف أرخميدس باختراعاته الكثيرة مثل الأشعّة الحرارية والمدفع البخاري ومفهوم الصغر اللانهائي وغير ذلك من النظريات الهندسية والرياضية. وربّما لو عاش عامين أو ثلاثة أخرى لكان على الأرجح قد اكتشف حساب التفاضل والتكامل، أي قبل نيوتن أو لايبنتز بألفي عام.
الكلمات الأخيرة المنسوبة إلى أرخميدس قبيل مقتله كانت: أرجوك لا تخرّب دوائري!" كان يخاطب قاتله مشيراً إلى الرسم الرياضي الذي من المفترض أنه كان يدرسه.
أرخميدس يُعتبر أعظم عالم رياضيات في العالم القديم، وأحد أعظم الرياضيين في جميع العصور. وقد نشأ ليصبح عالما متفرّدا بتوجيه من اثنين من أكبر علماء الرياضيات في زمانه. وعُرف عنه أيضا دوره الاستراتيجي في الحروب القديمة وتطوير التقنيات العسكرية.
وإن كنت قد شاهدت شخصية كرتونية لرجل عجوز يركض عارياً في شوارع إحدى المدن، فمن المرجّح أن تكون تلك الصورة الكاريكاتورية لأرخميدس.
وأصل القصّة أن الملك هيرون الثاني تحدّى أرخميدس أن يعرف ما إذا كان تاج الملك مصنوعا من الذهب الخالص أو مخلوطا بالفضّة. وكان على أرخميدس أن يكتشف نقاء التاج من عدمه دون أن يضطرّ الى صهره، ما قد يؤدّي الى الإضرار به.
وكانت تلك المسألة تلحّ على ذهن ارخميدس في كلّ وقت. وأثناء استحمامه، اكتشف أن هناك علاقة مباشرة بين الماء المتدفّق من الحوض وجسمه المغمور. وفجأة قفز من حوض الاستحمام وأخذ يركض في الشوارع وهو يصرخ "يوريكا.. يوريكا" أو "وجدتها.. وجدتها". وتوصّل الى مبدأه القائل بأن أيّ جسم مغمور في سائل يندفع إلى أعلى بقوّة تساوي وزن السائل المزاح.
ثم أجرى ارخميدس الاختبارات على تاج الملك، وبالفعل اتّضح أن الملك كان على حقّ، فقد خُلطت الفضّة بالذهب في التاج. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عبارته الشهيرة "يوريكا" تُستخدم للتعبير عن الفرح الكبير بأيّ اكتشاف جديد أو مفاجئ.
ويبدو أن العلم المفضّل عند أرخميدس لم يكن الهندسة بل الرياضيات. وربّما كان أحد أعظم إنجازاته في الرياضيات هو قياس الدائرة. وكانت قياساته لها دقيقة بشكل مثير للإعجاب.
ومن المؤسف حقّا أن مثل هذا الرجل اللامع والعبقري انتهى نهاية مفجعة. فقد كان الرومان بقيادة الجنرال ماركوس مارسيلوس يحاصرون مدينة سيراكيوز لمدّة عامين عندما تمكّنوا أخيرا من فتح أسوار المدينة.
وقيل إن مارسيلوس أمر بألا يَمسّ أحد أرخميدس وأنه سيكون ضيفه الشخصي. في ذلك اليوم، كان أرخميدس جالسا في منزله يحاول حلّ مسألة رياضية معقّدة عندما اندفع إلى داخل بيته جنديّ روماني فوجده يرسم دوائر على الأرض. وعندما أشهر الجندي سيفه في وجه العالِم قال له بهدوء: أرجوك قبل أن تقتلني، دعني أنتهي من دوائري". لكن الجنديّ لم يكترث بطلبه فهوى عليه بسيفه وقتله.
كان الغزاة الرومان على ما يبدو يثأرون من أرخميدس لأنهم اعتبروه رجلا خطيرا لابتكاره سلاحا جديدا استُخدم في الحرب ضدّهم. فعندما أبحر الأسطول الروماني لقتال جيش الملك هيرون، طلب الأخير من أرخميدس ابتكار طريقة فعّالة لمواجهة أسطول العدوّ الأكثر عددا وعدّة. وقد دُمّر معظم الأسطول المهاجم بواسطة المرايا المقعّرة، أو شعاع أرخميدس الحراري، الذي عكَسَ ضوء الشمس على السفن ما أدّى الى احتراق معظمها.
ويُعتقد أن أرخميدس ربّما استخدم مرايا كثيرة كعاكسات مكافئة. وقيل إنه عندما رأى جنود الجيش المهاجم ما حدث للسفن قالوا لملكهم: يجب أن نكفّ عن محاربة هذا الوحش الهندسي الذي تغلّب على مآثرنا بشعوذته الخارقة. لقد حوّل سفننا الى أكواب لغرف الماء من البحر!".
ويقول بعض المؤرّخين أن المينويين Minoans سبق أن استخدموا مرايا مزدوجة لهذا الغرض، وربّما كان أرخميدس يعرف هذا أو سمع به من قبل.
دُفن أرخميدس بالقرب من بوّابة سيراكيوز، ووُضعت على قبره كرة واسطوانة. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشهورا كثيرا في زمانه، إلا أن مخطوطاته تُرجمت في العصور الوسطى الى لغات عديدة وجذبت اهتمام الكثيرين. وفي القرن التاسع عشر قال فولتير واصفا إيّاه: كان في رأس أرخميدس من الخيال أكثر بكثير ممّا كان في رأس هوميروس!"

Credits
archimedespalimpsest.org